الخميس، 10 يناير 2013

إشكالية الشمول :


إشكالية الشمول :

وهناك فتاوي في الدين ثابتة لاتتغير.. لكن هنالك أخرى تتغير حسب الزمان والمكان والحال والظرف ،حتى أنه يروى أن الإمام الشافعي غير كثيرا من اجتهاداته إثر انتقاله من الشام لمصر : وبهذا يتبين أن الفقه الإسلامي تماما كفكره ليس جامدا بل متفتحا ومرنا ..وللفتوى شروط عديدة كما أن للمفتي الحق كفاءات عليا أدناها أن تكون له نظرة شمولية على موضوع إفتائه ..
لكن هناك من المسلمين من جمدوا فكرهم على أن الإسلام الحق إنما إسلام الصحابة رضوان الله عليهم ،لحد قولهم بأن لااجتهاد لسواهم.. وليدخلوا كهوف التقليد والجمود مدعين التزامهم بالنقل في حين أن المنقول الإسلامي يؤكد دوما على المعقول ..والغريب من هذا أنهم لايومنون بتطور الفكر الإنساني لحد ادعائهم أن الفكر الأسمى للأمة هو فكر ماضيها نابذين لكل ثراتنا الحضاري من أوله إلى آخره، ومتشبتين بالفقهيات لحد قول أحدهم : »لافكر في الإسلام « ..ونحن لاننكر عليهم حسن انضباطهم على الفرائض وكل شكليات العبادة ،لكنهم لايصلون إلى بناء عقولهم إسلاميا ،ناسين أن من غايات الإسلام بكل أعماله الصالحة بناء العقل المسلم وتطهير القلب المومن وتزكية النفس وتقديس الروح قبل بناء المجتمعات والأمة ..ولهذا فلاتجد لهم رِؤيا إسلامية في العديد من المجالات العلمية، ناقضين بفضاعة دور العلوم كلها في بناء المجتمعات وبناء المسلم الحق :خصوصا أن الأمر بالتعلم كان أول فعل نزل به جبريل عليه السلام : »إقرأباسم ربك الذي خلق ».. والقراءة في الإسلام غير منحصرة على شؤون الدين ،بل الرسول صلى الله عليه وسلم قال : »خذ العلم ولو من أفواه السفهاء « كما قال ـ »أطلبوا العلم ولو في الصين « والصين وقتها كانت من أنأى البلدان عن المجتمع النبوي .
فالإسلام إذن يامرنا بالتفتح على كل العلوم، وهذا لايتناقض تماما مع قوله صلى الله عليه وسلم : »عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجد » مما يجعل العديد من المسلمين يفهمون من هذا : العودة لعصر الخلافة قلبا وقالبا..فيدعون وقد التزموا ببعض الشكليات أنهم أشد اتباعا من غيرهم لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حين أنه لايمكن لمسلم أن يكون في المستوى الجليل للصحابة إلا إذا كان ضليعا حقا في فهمه للدين وشمولياته ،كما تربى على ذلك معظم الصحابة رضوان الله عليهم ،فهم قد تربوا على أعلى درجات الإسلام التي هي الإحسان وكان لهم فهم بليغ للقرآن الكريم حسب المستوى العلمي لعصرهم ..
واليوم مع تقدم العلوم صار الخلف أكثر فهما للعديد من الآيات من سلفنا الصالح خصوصا في مواضيع العلوم الحقة : كالطبيعيات والفيزياء والرياضيات وما يتفرع عنها من علوم كالبيولوجيا والجيولوجيا وعلم نشأة الكون وغير ذلك..ولهذا فإن العودة إلى عصر الصحابة يستدعي العودة إلى المستوى الأعلى في العمل بالشريعة وفهم حقائق الدين وهذا هو الإحسان الذي ربى عليه الرسول أتباعه رضي الله عليهم أجمعين :والذين ربوا التابعين الذين زادوا على الكتاب والسنة العديد من اجتهاداتهم بل حكمهم وحكم وأقوال الصحابة : الذين كانت حكمهم وعلومهم في الدين بليغة ومتنوعة لحد قول علي كرم الله وجهه : »هاهنا علم كبير لو وجدت له حاملا »وأشار لصدره.. وتنوع اجتهادالصحابة الذي يؤكد هذا أدى لحد تصادم اجتهادهم وتقاتلهم وظهور الطوائف والفرق بعد الفتنة الكبرى ..مما يجعل العودة للعصر الصحابي عودة إلى تنوع فهومات واختلافات وتنوعات لم تضادها وتشتتها إلا الخلافات السياسية ..
والغريب أننا نرى اليوم من يسب المخالفين لعلي ،ومن يكفر الخوارج أو الشيعة أو غيرهم من مرجئة ومعتزلة ..لحد إقصاء كل أدوارهم في بناء المجتمع المسلم والأمة رغم اختلافاتهم ..كما ظهر اليوم والبارحة من يسفه المتكلمين ويفسق الفلاسفة ويكفر المتصوفة ، في حين أن فطاحلة العلماء يعرفون جيدا دور علم الكلام في الدفاع على منطق التوحيد وغيره من المواضيع الفكرية التي كان يثيرها أعداء الإسلام ..كما لاينكرون دور الفلسفة في تعميق فهم المسلم في عديد من عقائد دينه ، بل والفلاسفة عالميا كانوا أساسا متينا لكل العلوم الحقة الحالية من الطب حتى للرياضيات..كما لاينكرون دور المتصوفة في المحافظة على روحانية الأمة وإلا كانت قد أكلتها الماديات من زمان .. في حين أن الرؤيا الشاملة للمسلم لاتكتمل إلا بمنطق البيان الفصيح والبرهان البليغ والعرفان الحكيم ولا شمولية لفهم الباحث ما لم يتطلع ـ على موضوعه على الأقل ـ بفقهه وفكره وعرفانه .لأن الطامة كانت حين قال الفقيه فقهي فقط ليقول المفكر فكري فقط ثم ليقول العارف عرفاني أشمل.. في حين أن دور الفقه لايلغيه الفكر ودور الفكر يرسخه الفقه كما أنه لاعرفان دون فقه وتأمل ..مما يجعل ثلاتيثهما تتلاحم ولاتتناقض كما يدعي بعض الحركيين خصوصا .
فالصحابة رضوان الله عليهم لم يكن لهم فهم واحد لكنه موحد لفقههم بمدى اختلاف الفهوم،ولم يكفر صحابي أبدا من خالفه حتى أن عليا رضي الله عليه ـ وجنوده تقاتل معاوية ـ كان يجمع قتلى الجانبين في صلاة جنازة واحدة ..وفي هذا عبرة لمدى فساحة صدور الصحابة وإن تلاقت سيوفهم بسبب اجتهادات سياسية محضة ..ولهذا فإن الشمولية في الفهم تقتضي :
ــ قراءة كل العلوم الإسلامية لا الإقتصار على فكر إيديولوجي لجماعة معينة
ــ اليقين بأن الإختلاف رحمة لانقمة وأن الخلاف مذموم
ــ الإلتزام بالجدل بالحسنى لترقى الفهومات إلى الوحدة العلمية المتناسقة وإلا ظلت آراء أحادية
ــ التطلع على الفكر الإنساني كله جهد المستطاع .
مما يعني عدم سجن فكر المسلم في سطحية الآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة بل هناك آيات تشرحها العلوم الحقة بدقة أرقى من بيان الفقهاء ..كما أن هناك كثير من العلوم التي من الواجب تطعيمها بل وتعميقها بآيات قرآنية ،حتى أن هناك من نادى بمذهب إسلامية المعرفة التي تعني الشرح العلمي للآيات وشرح العلوم بالآيات مع مراعاة تطور العلوم ..فالفكر الإسلامي إذن بتفتحه حقق انطلاقة صحيحة لحضارتنا الحالية ..وأيضا بعمقه وشموليته سيحقق آفاق هاته المعارف الحضارية ..مما يلزم أي حركة حضارية بالشمول المؤسس على كل الأرضيات المعرفية والحركية ومتشعبا في كل المجالات ومتفرعا على كل الميادين بوعي كبير بكل التنظيمات مما يعني في جملة : »ربط كل ما هو إنساني بما هو إسلامي »..وقد صدق من قال : » كل مافي صالح الناس له سند في الشريعة الإسلامية «
لكن العقبة الكبرى المكسرة لهذا الشمول هو الحركات الإجتماعية والسياسية التي غالبا ما تغرق في متناقضات العلوم السياسية والإجتماعية والواقع من جهة والنداء بالحكم بالتنزيل شريعة وشورى من جهة أخرى.. مما يجعل من الحركات الإسلامية من تميل للواقعية لحد علمنتها، ومنها ما تناقضها بميلها الكبير للمبادئ العليا دون أية تنازلات، مما يلزم الحذر الكبير في العمل السياسي باسم الإسلام لأن السياسة اليوم لها علومها .. مما يجعل الفقيه وحده اليوم غير قادر على التعمق سياسيا، كما أن السياسي غالبا ما يكون جهله بالفقهيات علة لمحاربته للشريعة باسم الديمقراطية أوغيرها...وهذا النقص هو السبب الذي جعل العديد من « الحركات السياسية خصوصا » تنقلب إلى أحزاب ينطبق عليها قوله تعالى : »كل حزب بما لديهم فرحون » .وكل ينادي إلى فهمه الخاص مدعيا عصمة النبي دون شعور، في حين أن كلا يؤِخذ من رأيه ويرد كما ربى على ذلك النبي صحابته ولحد تنازله عن كثير من آرائه في أمور الدنيا حتى قال : »أنتم أدرى بأمور دنياكم ».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق